سياسة
يونس مسكين يكتب.. رماة المنجنيق
منظمة مراسلون بلا حدود الفرنسية، المشهود لها بالتاريخ الطويل في رصد ودعم حرية الصحافة في العالم، تفتري على المغرب بلا حدود، وتصفه بما ليس فيه، وتزعم أن الصحافيين المغاربة يواجهون ضغطا قضائيا وتضييقا كبيرا.
منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية العملاقة، التي تتردد أصداء بياناتها داخل جدران مبنى وزارة الخارجية، تجامل شباب حراك الريف، وتتودد إلى بوعشرين، وتدعي أنه يعيش العزلة منذ أكثر من عام، ويعاني إجراءات تعسفية مستوحاة من عالم الخيال.
منظمة العفو الدولية، البريطانية الأصل، تكذب في وصفها الأوضاع الحقوقية في المغرب حين تسمها بالأزمة والتراجع، وتتحدث عن صحافيين لا وجود لهم اعتُقلوا بسبب تعبيرهم عن آراء معارضة.
أما الفريق الأممي المعني بالاعتقال التعسفي، متعدد الجنسيات والكفاءات، فيستهدف المغرب، ويتنازل عن وظيفته الحقوقية الأممية ليطعن في عدالة القضاء المغربي، ويتموقع في قلب هذه الكوكبة العالمية التي تكرهنا، ليعتبر توفيق بوعشرين محتجزا دون سند قانوني، ويطالب بالإفراج عنه ومعاقبة المسؤولين عن سجنه.
من كان يتوقع أو يجرؤ على المجازفة بخياله ليتصور أن المغرب، في يوم من الأيام، لن يجد غير هذا الخطاب لتدبيج بلاغات الوزارات والمندوبيات والمجالس والهيئات الحقوقية به؟
من كان قبل سنوات قليلة يستطيع الذهاب بتشاؤمه إلى درجة التفكير في أن مغرب الإنصاف والمصالحة والعهد الجديد، والمفهوم الجديد للسلطة، والمشروع المجتمعي الحداثي، ومدونة الأسرة، والحكامة الأمنية، والتعويض عن أضرار الماضي، واللجان الجهوية لحقوق الإنسان، والعفو عن السلفيين و… سيتحول، في يوم من الأيام، إلى منجنيق يقذف المنظمات الحقوقية الدولية، الأكثر عراقة ومصداقية وتأثيرا، بحجارة صماء من هذا النوع الذي نتابعه اليوم؟
من هؤلاء الذين قدموا أكبر خدمة لأعداء المغرب المتربصين بوحدته الترابية، الآخذين في تحريك الورقة الحقوقية من جديد في أعلى مستويات القرار الدولي، لفرض آليات أممية تخرق سيادة البلاد في نصفها الجنوبي، حين شكّلوا هذا الكم الهائل من المظلومين والمضطهدين، لتخرج عائلاتهم وأصدقاؤهم، ومن يتضامن معهم من منطلق المواطنة والإنسانية، في مسيرة أمس الاحتجاجية؟
كم كان مؤلما ذلك البيان الذي صدر باسم مندوبية السجون متحدثا عن «جهات تسعى إلى استغلال ملف هؤلاء (معتقلو الحسيمة) من أجل تنفيذ أجندات مشبوهة». وكم كان صادما خروج الإدارة المكلفة بالتحفظ على الأشخاص المحكوم عليهم بفقدان الحرية لا أقل ولا أكثر، لتفتش في تصريحات ذوي المعتقلين «في مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض المواقع الإلكترونية»، لتخلص إلى أن الهدف منها هو «التهويل وتضليل الرأي العام».
على سياسيي وحقوقيي اليمين واليسار، الموجودين اليوم في مواقع القرار، أن يفسروا للمغاربة كيف تحولت هذه المنظمات الدولية، المستقلة في تمويلها وتحركها داخل بلدان نشأتها، إلى «أعداء» للمغرب يفترون عليه بالليل والنهار؟
حبذا لو تنظم ندوة مشتركة بين وزراء العدل والاتصال وحقوق الإنسان، والناطق الرسمي باسم الحكومة، ورئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمندوب الوزاري لحقوق الإنسان، ليشرحوا لنا كيف تحولت هذه الآليات، التي يتولون رئاستها اليوم، إلى مرددين في مجموعة كورال جماعية لا يخرج أي منها عن اللحن الذي نجهل مبدعه.
هل تحتاج الدولة إلى كل هذا الفريق من السياسيين والحاملين لرصيد سياسي أو حقوقي أو أكاديمي لكي تلمع وجهها؟ كيف تحوّل هؤلاء جميعا من أصوات حقوقية مدافعة عن المواطن إلى ألسنة تلهج بالتبرير؟ ثم، هل يستفيد المغرب بالفعل من أسلوب المنجنيق هذا ضد قلاع حقوقية دولية حصنت نفسها منذ عقود ضد بيانات الأنظمة السياسية، خاصة منها المتخلفة وغير الديمقراطية؟
إن أسلوب «الغنان» والهروب إلى الأمام لا يمكن أن ينتج سياسة عمومية أو مشروعا للحكم. فالسلطة، كما تتطلب أياديَ تمدّ إليها من «فوق» لحمايتها بالقانون والزجر والعقاب، تظل محتاجة إلى أخرى ترفعها من «تحت» عبر الارتباط بالمجتمع، والإنصات إليه، والوساطة بينه وبين الدولة.
هذه الأيادي «التحتية» هي التي تمنع السلطة من السقوط الحر والانكسار فوق رأس المجتمع، وما مسارعة هؤلاء، الذين أنيطت بهم هذه المهمة، إلى الالتحاق بركب الزجر والعقاب، إلا إيذان بهول هذا السقوط الذي يدفعنا إليه رماة المنجنيق.