ثقافة وادب وفنون
كل عشر سنوات أنت تصبح شخصا آخر
عرف الحراك الأدبي في مصر العديد من الأصوات النسائية التي أثرت المدونة الأدبية المصرية والعربية على حد سواء، ولا نورد هذا الأمر على أساس تقسيم جنسي، إذ الكثير من الآثار الأدبية تلغي تتبع إن كان صاحبها رجلا أو امرأة، بل نسعى إلى تبيّن أن الأدب الجيد يبعدنا عن البحث عن جنس صاحبه. “العرب” التقت الشاعرة المصرية غادة نبيل في حوار حول الأدب المصري اليوم.
يرى البعض أنه غالبا ما تنحصر نصوص المرأة العربية في عوالمها الخاصة، في ما يطلق عليه “الأدب النسوي”، عن موقفها من هذه التسمية تقول الشاعرة المصرية غادة نبيل “لو تعرف كم أرهقنا هذا المصطلح، الذي به من الحقيقة ومن الاتهام ومن الافتراء ما به. هل هناك مصطلح “أدب ذكوري أو رجالي؟”.
الكتابة ليست مدرسة
ترى نبيل أن مصطلح الأدب النسوي ابن مجتمعات تصنيفية متوحشة، هي لا تنكر وجود خصوصية عند بعض الشاعرات في الخوض داخل العالم والذات، حيث تتسرب الذات بجندرها، لكن هذا في رأيها ليس مبررا لصناعة مصطلح النسوية في الأدب على أنه تهمة.
تضيف الشاعرة “عندما كتبت هيلين سيكسو أن النص الأنثوي لا يمكنه إلا أن يكون ‘انقلابيا وبركانيا‘، فأنا أرى ملامح ذلك في كتابات شاعرات وكاتبات قصة مصريات اليوم، بل ومنذ كتابة القاصة الراحلة أليفة رفعت. سيكسو تريد لجسد المرأة أن يكتب، أن يجعل نفسه مسموعا ونحن مجتمعات تدفن ذلك الجسد وتقوم بوأد الروح قبله. انظر إلى الجسد النسائي في مصر، أنا أبحث عنه ولا أجده وأشتاق إلى رؤية شعور وأعناق النساء. من ناحية أخرى هناك فرق بين القارئ الرجل والقارئة المرأة في استقبال عمل شعري لشاعرة وآخر لرجل. هذا لا يجب إنكاره. هذا ما يستوجب الاتهام ولكن لكل مؤسساتنا وبنية مجتمعاتنا ومفاهيمنا وقوانيننا. مع هذا أرفض صياغة السؤال كتهمة، إنه غالبا ما تنحصر نصوص المرأة العربية في عوالمها الخاصة، لننظر في أنفسنا، وإلى الإبداع وزخمه. الجميل هو ما فر من التصنيف، الجميل أن ننسى حين نقرأ من الكاتب، وأن يساعدنا هو على ذلك النسيان”.
تكتب غادة نبيل قصيدة النثر، نسألها هنا عن رؤيتها لهذا النمط الشعري الذي اكتسحته الأقلام وأغلبها عن غير وعي، لتجيبنا بأنها تظن إما أن نكتب الشعر وإما ألا نكتب. تضيف “كلمة شعر تبدو مشتقة من شعور، ولهذا الأولوية عندي. لكن كلمة ‘عن غير وعي‘ في السؤال تحمل بدورها ملاحقة وإدانة ما. قد أوافق باحتراز أنه قد ظهر الكثير من الغث ومع هذا يمكن الإجابة بأن ما تراه أو أراه أنا في لحظة وبذائقة خاصة ‘عن غير وعي‘ قد يكون وعيا جديدا يبحث عن كيفية انبعاثه وكينونته بعيدا عن تكلس مفاهيم الجمال الصنمي. ثم ليست هناك مدرسة لتعليم قصيدة النثر كي يكون من حقي أن أقول إن رؤيتي الجمالية هي الصواب”.
الكثير من شعراء قصيدة النثر متأثرون بالنصوص المترجمة، فصاروا يكتبون متكلفين بالعربية نصوصا عن عوالم لا تمت إليهم بصلة، عن رأيها حول المحلية والكونية في الشعر، تقول نبيل “لماذا أشعر بظلم العالم؟ هناك شعراء لصوص وهناك أصلاء وهو أمر ندركه كحتمية تاريخية. لكن دعني أتوقف لتصحيح مسألة تؤرقني منذ زمن؛ هناك شعراء رائعون يقومون بالترجمة كذلك فلماذا تكون نصوص بعضهم عرضة للشك لمجرد أنهم يجيدون لغة أخرى أو أكثر؟ وهناك شعراء يجيدون لغات أخرى و يقرأون ولا يعلنون هذه الإجادة أو القدرة كي يسرقوا مرتاحي البال وربما يأخذون جوائز!”.
تتابع ضيفتنا “هناك شعر وسرد عذب وجديد سواء كتبه أحمد شافعي الذي يعيش في مصر أو عماد فؤاد الذي يعيش في بلجيكا، هناك رواية حصدت جائزة نوبل لكاتب مصري اسمه نجيب محفوظ لم يسافر حتى ليتسلم الجائزة بنفسه، يكتب عن حارات مصر وأزقة النفوس أيام الاحتلال الإنكليزي. هناك مأساة كتبتها شيمبورسكا وأخماتوف، كتبها شكسبير وجون بيرجير، فوكنر والغيطاني ومارجريت دورا. والصوفية، غنتها كموسيقى ليزا جيرار بل وأسمهان وأم كلثوم بصوتيهما، رَقَصَتها إيزادورا دنكان، وسيرسمها التشكيليون حتى القيامة، وحولها إلى سينما تاركوفسكي ومخمالباف وأنجيلوبوليس… هناك طعنة واحدة بالسكين نفسه في ظهورنا جميعا وفي الوقت نفسه”.
أكتب لنفسي
مسحة من الأسطورة
قصائدك غادة نبيل تتطرق إلى التفاصيل اليومية المهملة وتستلهم منها عوالمها الشعرية التي تمزجها بمسحة من الأسطورة في مزيج شعري ينطلق من الجزء إلى الكل، نسألها هنا عن عوالمها الشعرية لتقول “لو عرفت توصيف عالمي الشعري أثناء تشكله فهو اعتراف بأني رديئة شعريا. أستطيع أن أقول الغضب بمستوياته وأنواعه، حرك أكثر دواويني إلى الآن، وأظن أني أحب وأحترم من يقدرون لي الشعور به. أما الأسطورة فهي مرحلة استخدمتها حين نظرت إلى ما أصدرته بعين ملتفتة إلى الوراء، في ديوانين هما ‘تطريز بن لادن‘ (2010) و ‘هواء المنسيين‘ (2014)، لكن أتمرد عليها وسأنجح. وحتى في هذين العملين تجد خلعا للأسطورة أو تفكيكا لها وليس محايثة أو مجرد اقتباس فحسب وهو ما حاولته أيضا بشيء من ‘المسرحة‘ في ‘هواء المنسيين‘. وكلا الديوانين جاءا من نفحات زيارتي لباكستان والهند”.
نسأل ضيفتنا إن كانت تنظر إلى الكتابة كمشروع، لتؤكد ذلك مستشهدة بالروائي الباكستاني البريطاني حنيف قريشي الذي يقول “كل عشر سنوات أنت تصبح شخصا آخر”، وأظن أن هذا يحدث في أقل من المدة الزمنية التي حددها.
تقول “أتصور الفارق الزمني بالغ الأهمية كي نتزحزح كل مرة خطوة بعيدا عن جمالياتنا السابقة ولكي نحاول اللعب والاستمتاع به في الشعر. سؤال المقروئية مهم دون شك، وأعي جيدا أن هناك ثمنا لكل نوع وتوجه من الكتابة يرتبط بما أريده منها. إن كنت تريد التجريب فاكتب، حتى لو كانت النتيجة غير مفرحة آنيا، على الصعيد النقدي والجماهيري. أما إن كنت تريد طوابير القراء فافعل ما يفعله البعض ممن استشروا سرديا وتجد كتبهم في مكتبات رصينة أكثر من اللازم بمصر وعلى الأرصفة مع الباعة. هؤلاء ‘البسيت سيللر‘ لا يخوضون حربا مع أحد؛ لا الوجود ولا القارئ، هم كائنات سعيدة”. تتمنى نبيل أن يقرأها العالم وأن يعجبه شعرها، لكنها تقول “أكتب أولا لنفسي، بحثا عن هواء جديد وبديل، عن خلاص ما لا يتم أبدا في الحياة”.
حول رأيها في المشهد الأدبي المصري اليوم، وخاصة في ما تكتبه النساء المصريات تقول نبيل “المشهد الأدبي المصري مبهج وكئيب، شرس وحنون، كأني أتكلم عن حبيب. الموهبة دائما مصدر فرح وفي مصر عمق أصيل لمواهب عديدة سواء أصحابها رجال أو صاحباتها كاتبات. لكنني أحزن أكثر حين أرى احتضان ورعاية المواهب الشابة في مدارس وجامعات المغرب وتونس مقارنة بمصر حيث مسألة رعاية الجمال أو البحث عنه لا تعني أحدا على المستوى الرسمي رغم كل مهرجانات ومؤتمرات وقوافل الكتب وبيوت الثقافة التي تتبع الوزارة”.
أما وسط الشعراء فحافل، كما تقول نبيل، بالمذابح بصيغها ما بعد الحداثية التي لا تتوقف. فهناك قتلٌ معنوي وحصار وتخاطف فرص ونهش للشعر ولصاحبه واستعراضات كراهية غير مبررة وعاتية. أما دور الشاعر والكاتب والمثقف عموما فتراه نبيل في أن يحاول ألا يكره، إلا الأشياء التي تستحق ذلك الشعور، ثم يكتب إلى النهاية.