ثقافة وادب وفنون
كيف يمكن لطائر الحجل أن يكون رمز الخيانة
- يمكن للأدب وخاصة الروايات تعرية الوقائع التاريخية، لا من خلال سردها كما هي بل بتقديمه لصور غير معهودة من زوايا لا يمكن للمؤرخ النظر من خلالها. الكثير من الروايات قدمت أحداثا تاريخية بلغة مغايرة وصور أخرى ما ساهم في تشكل وعي آخر بالتاريخ، وعي لا يستهلك التاريخ كمادة خبرية بل يتساءل فيه.
-
يعود الروائي السوري الكردي جان دوست المقيم في ألمانيا في روايته “ثلاث خطوات إلى المشنقة” إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وبداية انهيار الإمبراطورية العثمانية، ونشوء الجمهورية التركية على أنقاضها، وتقاسم الاحتلالين الإنكليزي والفرنسي دول المنطقة، وحلم الأكراد حينها بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وذلك من خلال تصويره لأجواء إعدام الشيخ سعيد بيران (1865-1925).
بين الخيال والحقيقة
يتوسل جان دوست التخييل التاريخيّ في روايته، الصادرة عن دار الساقي 2017، وذلك عبر ابتعاث شخصية تاريخية روائياً، وهي شخصية الشيخ سعيد بيران؛ الذي ثار على الدولة التركية في عشرينات القرن العشرين، وفشلت ثورته التي اتّسمت بطابع ديني وقومي في آن.
وكان دوست قد حاول ابتعاث شخصية الشاعر الكردي الشهير أحمدي خاني (1651 1707-) صاحب ملحمة “مم وزين” ذائعة الصيت، وذلك في روايته “ميرنامة”، ويأتي ذلك في مسعى لإضفاء نوع من المعاصرة والمستقبلية على هذه الشخصيات، وتسليط الأضواء على دورها في مرحلتها التاريخيّة ورؤاها السابقة لعصرها.
يعالج دوست واقع ثورة اجتمع عليها الأعداء ولم يناصرها أولئك الذين يفترض بأنهم أصدقاء، كما تخلى عنها عدد من أولئك الذين يفترض بأنها اشتعلت لتدافع عنهم وعن حقوقهم في أرضهم وبلادهم، وكأنها كانت خطأ، أو أنها اختارت لحظة غير مناسبة في زمن كان يشهد تغيرات عاصفة في خرائط الشرق.
بلغته الشاعرية وأسلوبه الترميزي يرسم جان دوست صورة مأساوية عن تاريخ اغتيال أحلام أناس بسطاء، دخلوا لعبة كبرى
وصفت ثورة الشيخ سعيد بأنها انطلقت من دوافع دينية أكثر منها قومية، ولم يكن الوعي القومي قد تبلور عند الكرد في تلك المرحلة، برغم نشوء جمعيات تحاول نشر الوعي وإحياء الجانب القومي كجمعية “آزادي” التي اختارت الشيخ سعيد رئيساً لها في تلك المرحلة، ويعزى ذلك من جانب إلى ثقل تأثيره الاجتماعي المنبثق عن التأثير الديني باعتباره كان شيخاً للطريقة النقشبندية.
يحدد الروائي المسافة بثلاث خطوات إلى المشنقة، وهي خطوات يخطوها الشيخ سعيد معتلياً منصة الإعدام التي نصبها لها الجنود الأتراك الذين كانوا مسكونين بروح انتقامية على الشيخ الثائر، وكانوا قد ارتهنوا لسلطة أتاتورك ومسعاه لتغيير هوية البلاد والتخلص من إرث الدولة العثمانية الديني، وتأسيس جمهورية حديثة ذات توجه علماني.
يلفت دوست إلى مفارقة مريرة في واقع الثورة وهي أن أشدّ أعدائها كانوا بين ظهراني أبنائها ومن بني جلدتهم، لكنهم خانوا أهلهم وأحلامهم وتاريخهم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل المحتل المعتدي عليهم المغتصب لأرضهم، ورهنوا أنفسهم له، كحالة قاسم بيك الذي كان عديل الشيخ سعيد، وقد كان من الواشين به، كان مرافقاً للجنود الذين أسروه، ويرمز إليه الروائي بالحجل؛ ذاك الطائر الذي يرمز إلى خيانة أبناء جلدته، وهو رمز للكردي في بعض الحالات المريرة.
إقصاء الكرد
بلغته الشاعرية وأسلوبه الترميزي يرسم جان دوست صورة مأساوية عن تاريخ اغتيال أحلام أناس بسطاء، دخلوا لعبة دولية من دون استعداد ودراسة واطلاع وتمهيد، ظنوا أنّ الثورات قد تنجح بالبنادق وبعض التدين، من دون اللجوء إلى العلم والمعرفة، وكان من شأن ذلك أن أجهض تلك الأحلام وتسبب بإفشال الثورة التي افتقرت إلى بنيان قوي يكفل لها الصمود والاستمرار، ولا سيما مع استنكاف عدد من الشيوخ والآغوات الكرد عن الالتحاق بركابها، والتكاتف معها.
رواية عن الأحلام المهدورة
كما أنّ هناك حامل الجوز المتجول به، ينثر كيس جوزاته هنا وهناك، وهو الذي لم يتحمل صدمة إعدام عدد من القادة الكرد قبل سنوات من ثورة الشيخ سعيد، وأوقعته الصدمة بين براثن الجنون، ذاك الذي شكل ملاذاً بمعنى ما له، وظل يجول في المناطق داعياً إلى زرع الجوز الذي قد ينبت في الجبال والسهول ويحمل معه تجديداً لتربة المنطقة وأهلها، ويرمز بها إلى وفاء مأمول وجيل قادم منشود، ويكون مصرعه المأساويّ على يد جنود أتراك وإلقائه على ضفّة نهر، يكون طعماً للإيقاع بالشيخ ومرافقيه حين يعبرون الجسر بحثاً عن ملاذ مؤقّت.
يصوّر دوست الجانب المرهف من شخصية الشيخ سعيد المقبل على الإعدام بروح شجاعة وثقة بالنفس، وذلك من خلال تصوير حبه لبريخان وتعلقه بها، وظمئه الدائم لمرآها، واشتياقه المضني لها، وشعوره حين اشتداد الأنشوطة على رقبته أنه على أهبة رؤيتها بعد طول غياب، ولثم كأس الماء من يديها، ومحاولة الارتواء بعد عطش شديد طال روحه وأبقاه نزيله.
يوثق الروائي مشاهد من تحالفات دولية بددت أحلام الكرد، من ذلك مثلاً لقطات من مدينة سيفر الفرنسية -في فصل “مزهرية سيفر”- التي احتضنت معاهدة دولية (سيفر 1920) تقاسم فيها معظم الأطراف الحصص، وتمّ إخراج الكرد تالياً من دون حصة، وكيف أنها كانت ممهدة لمعاهدة لوزان 1923 التي تم فيها التنكيل بالحقوق الكردية حينها، ولا يعفي الجوانب الكردية المشاركة في تلك المرحلة من إثم التبدد والارتهان والتفرق والضياع، وعدم القدرة على مواكبة مستجدات العصر ومتغيراته والتمتع بالمرونة السياسية لإقناع القوى الكبرى بحقوق الكرد بلغة السياسة والمصالح.
يتنقل جان دوست في تأليفه بين اللغتين؛ الكردية والعربية، ودأب على ترجمة عدد من أعماله بنفسه إلى اللغة العربية في تجارب سابقة كرواية “ميرنامة.. الشاعر والأمير” و”مارتين السعيد”، وقد صدرتا عن مشروع كلمة في أبوظبي، و”مهاباد وطن من ضباب”، وقد أعلن أنّه بصدد ترجمة روايته “كوباني.. الفاجعة والربع” التي صدرت مؤخّرا بالكردية في إسطنبول. كما أنّه كتب عدداً من رواياته في السنوات الأخيرة باللغة العربية كروايته “عشيق المترجم”، و”نواقيس روما”، و”دم على المئذنة”..
يشار إلى أنّ جان دوست نفسه قام بترجمة روايته “ثلاث خطوات إلى المشنقة” من اللغة الكردية إلى العربية، وكانت قد صدرت في إسطنبول 2015 بعنوان “3 Gav u 3 Darek”.